عاشت البشرية على مر العصور أحداثا هامة، ولعل الثورة الصناعية وما تولد عنها من تحولات تكنولوجية واقتصادية واجتماعية وثقافية ، انطلاقا من أواخر القرن الثامن عشر بأوربا الغربية وشمال أمريكا بعد ذلك كانت أبرز هذه الأحداث. هذه التحولات أسفرت عن تحقيق الرخاء الاقتصادي بهذه الدول ودعم بنياتها الأساسية كالطرق والسكك الحديدية والموانئ ورفع مستوى عيش مواطنيها. ومع توالي السنين لم تكتف الدول الغربية المصنعة بفتح أسواق خارجية بالعديد من مناطق وجهات آسيا وإفريقيا وأمريكا لتصريف منتجاتها، بل عمدت إلى إقامة مستعمرات بها لاستغلال خيراتها والأيدي العاملة الرخيصة وإقامة بعض الوحدات الإنتاجية الصناعية والفلاحية والمنتجعات السياحية، هذه المنتجعات كان ينزل بها على الخصوص المستعمرون سواء المقيمون أو الوافدون منهم من وطنهم الأصلي.
بجانب التغيرات التكنولوجية التي نتجت عن الثورة الصناعية فإن التطورات الفكرية والثقافية التي صاحبتها بالمجتمعات الغربية كان لها هي أيضا دور كبير في توجيه التطورات الاقتصادية والاجتماعية بهذه المجتمعات، فلقد كان من بين أهداف التيارات الفكرية الأوربية ليس فقط الانسلاخ عن الماضي المظلم الذي كرسته العصور الوسطى، بل وأيضا تحقيق الحرية الدينية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية للأفراد والجماعات، الشيء الذي جعل من الحياة في أوربا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ـ حسب العديد من العلماء الأوربيين أنفسهم ـ نسخة صادقة من الحضارة اليونانية / الرومانية الغابرة التي كانت تعتمد على القوة والتثقيف الذهني، وتمجيد الطبيعة، والعناية بالجسم والألعاب الرياضية، والفنون والغناء والرقص، لذلك فما أن توفر للمجتمعات الغربية الرخاء الاقتصادي، حتى سارعت إلى إنفاق الفائض من دخلها في ممارسة الأنشطة الترفيهية والإقامة بالمنتجعات السياحية بمحطات المياه المعدنية وبأعالي الجبال وعلى ضفاف الأنهار وشواطئ البحار.
وهكذا، وشيئا فشيئا، لم تعد السياحة مجرد ظاهرة اجتماعية تهم بعض الأفراد والجماعات، بل تحولت إلى أنشطة ترفيهية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية، وذلك بسبب تدفق مئات الملايين من السياح على مختلف الدول والمناطق السياحية، الشيء الذي شجع العديد من دول غرب أوربا وشمال أمريكا أن تعمل على النهوض بالسياحة وتحويلها إلى صناعة حقيقية وأداة لتحقيق التنمية والاقتصادية والاجتماعية.
صادف استقلال العديد من دول العالم الثالث السائرة في طريق النمو خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي ازدهار السياحة، ورأت هذه الدول كيف أن العديد من الدول المتقدمة جعلت من قطاع السياحة موردا اقتصاديا بفضل عائداتها المالية وانعكاساتها الإيجابية على العديد من القطاعات الأخرى كالأشغال العمومية والبناء والخدمات والتشغيل الخ... ورأت حكومات هذه الدول أيضا أن استغلال ثرواتها لإخراج شعوبها من التخلف لم يعد يقتصر على الثروات الفلاحية والمعدنية والبحرية فقط ، بل امتدت لتشمل المؤهلات الطبيعية والثقافية ذات الصبغة السياحية.
واقتداء بالدول السياحية، تبنت العديد من دول العالم الثالث السائرة في طريق النمو سياسة النهوض بالسياحة، وكان عليها أن تعمل على إحداث منتجات سياحية وتسويقها لجلب المزيد من السياح والعملة الصعبة، وهذا يعني القيام بعمليات إنتاجية سياحية تشمل توفير التجهيز الأساسية ) إنشاء المطارات والموانئ والطرق(، ودعم الاستثمارات ) إحداث المنشآت والمقاولات السياحية(، وتكوين الأطر من مختلف المستويات والتخصصات )لاستقبال السياح وتسيير المؤسسات والمقاولات السياحية (، والعمل ببرامج إنعاشية لفتح الأسواق الخارجية ) القيام بحملات إعلامية وإشهارية لتسويق المنتوج السياحي ( الخ... وهذا الأمر كان يقتضي العمل بسياسة تتضمن برامج ودراسات هادفة، وتوفير موارد مالية وبشرية كافية، مما جعل دول العالم الثالث أن تواجه صعوبات كبيرة لاستغلال مؤهلاتها السياحية وأن تلجأ إلى الخبرات والمساعدات التقنية والمالية الخارجية.
كان المغرب من بين دول العالم الثالث السائرة في طريق النمو التي أولت قطاع السياحة أهمية كبرى، فبعد الاستقلال انصبت التوجهات الاقتصادية والاجتماعية على النهوض بقطاعات التعليم والفلاحة والصناعة، وانطلاقا من منتصف الستينات تم إعطاء الأسبقية للسياحة وتحويلها إلى قاطرة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إلا أنه وخلال نهاية السبعينات وبداية الثمانينات قامت السلطات العمومية بتقليص دور القطاع العام والاعتمادات المالية المخصصة لبعض القطاعات كانت السياحة من بينها، وذلك بسبب الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهت البلاد، وسياسة التقشف والخوصصة التي نهجتها هذه السلطات. ورغبة في إخراج البلاد من تخلفها وأزماتها الاقتصادية والاجتماعية تقرر الرجوع إلى العمل بالمخططات التنموية والرهان على السياحة مرة أخرى وتحويلها إلى أولوية وطنية وقاطرة للتنمية خلال فترة 2000 /2010 .
استأثرت ظاهرة السياحة الحديثة وانعكاساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية باهتمام العديد من الهيآت الوطنية والدولية الحكومية وغير الحكومية، والمؤسسات التعليمية، ورجالات السياسة والاقتصاد والفكر الخ...الذين قاموا بإجراء دراسات وإصدار أبحاث ونشرات تهم مختلف أبعادها وانعكاساتها على مختلف المجالات الحياتية. فمنذ أواخر العشرينات من القرن الماضي، وتحت إشراف عصبة الأمم، قام الاتحاد الدولي للهيآت الرسمـية للسيـاحة والمنظمة العالمية للسياحة بعد ذلك وغيرهما بإجراء دراسات وعقد مؤتمرات ولقاءات دولية حول أهمية السياحة وانعكاساتها المتعددة، وتقوم مؤسسات رسمية وغير رسمية بالدول السياحية من جهتها بنشر أبحاث وتقارير دورية حول المؤهلات السياحية ببلادها والنتائج التي تحققها، وأصبح للعديد من هذه الدول معاهد ومدارس عليا سياحية تدرس بها مواد كالجغرافية، والتاريخ، والاقتصاد، والقانون، واللغات... فضلا عن مواد أخرى تهم تدبير المنشآت والمقاولات السياحية. بجانب ذلك تناول العديد من الباحثين ورجال الفكر ظاهرة السياحة الحديثة وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وغيرها، سواء أكان ذلك بالدول المتقدمة أو بالدول السائرة في طريق النمو، فمنهم من تحمس للسياحة واعتبرها أداة للتنمية ونشر السلام بين الشعوب، ومنهم من رأى لها إيجابيات وعيوب يمكن تلافيها، والبعض الآخر أكد على جوانبها السلبية وخصوصا بدول العالم الثالث السائرة في طريق النمو.
أما بالنسبة لبلادنا فإن قطاع السياحة يأخذ حيزا مهما من التقارير والنشرات والدراسات والأبحاث تقوم بإنجازها الإدارة المكلفة بالسياحة وبعض المؤسسات شبه العمومية، والتعليمية، ومختلف دور الإعلام وجمعيات المهنيين السياحيين وبعض الباحثين حول السياسة السياحية التي يتم إتباعها وانعكاساتها على مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. فعلى مستوى الإدارة الوصية فبالإضافة إلى مخططات التنمية السياحية التي تساهم في إعدادها وتقارير اللجنة الوطنية بخصوصها، والنشرات السنوية التي تقوم بإصدارها حول أهمية هذا القطاع والنتائج التي يتم تحقيقها في مختلف مجالاته، فإن هذه الإدارة قامت، منذ بداية السبعينات وبتعاون مع بعض الدول الصديقة ومكاتب الدراسات الوطنية والدولية، بإجراء دراسات شملت مختلف أوجه قطاع السياحة. هذه المخططات والدراسات والتقارير والنشرات تمثل مرجعا مهما حول أهمية السياحة ببلادنا ودورها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وبخصوص المؤسسات التعليمية وبحكم طبيعتها التكوينية، فإن أبحاث خريجي بعض مدارس التكوين السياحي تنصب عادة على بعض أوجه النشاط السياحي وعائداته وعلى مجال تدبير المؤسسات والمقاولات السياحية، في حين تتناول مؤلفات وأطروحات بعض الباحثين وخريجي المدارس العليا والجامعات بعض أوجه السياسة السياحية وتأخذ بالدرس والتحليل جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية.
ويأتي هذا الكتاب كمحاولة لإغناء المكتبة المغربية والعربية ومساهمة في تأهيل واطلاع القارئ (...)على أهمية السياحة وأبعادها وانعكاساتها على مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها. أما الجزء الأكبر من هذا المؤلف فيتناول السياسة السياحية ببلادنا ـ استنادا إلى معطيات إحصائية وتقارير دراسية وبيانات وطنية ودولية ـ ويلقي المزيد من الضوء على مختلف مضامينها، ويأخذ بعين الاعتبار تدرجها التاريخي ومراحلها العملية/الإنتاجية، والتدابير التنظيمية والتشريعية والمالية الموازية، والنتائج التي أمكن تحقيقها والآفاق المستقبلية للسياحة ببلادنا على ضوء برامج ونتائج السياسة السياحية 2010/2000.
كما يتضمن هذا الكتاب في الأخير ملحقا يشمل جداول وأرقام حول تطور مختلف مجالات السياحة كالاستثمارات والمؤسسات والمقاولات السياحية، وعدد السياح الوافدين وعدد المبيتات، والعائدات المالية السنوية، والطاقة الإيوائية السياحية بمختلف الوجهات السياحية الخ... وذلك بغية تمكين القارئ والباحث من معطيات تساعده على المقارنة واستخلاص النتائج الممكنة.